الأحد، 13 مايو 2012

النداهة
 
بعد أن تجاوزت الساعة الثالثة و النصف صباحا ، شعرت برغبة شديدة فى رؤية القاهرة كما لم أراها من قبل ، فحالتى المزاجية اليوم تختلف عما شعرته طيلة حياتى ، فلم أكن اشعر شيئا عاديا ، كانت لدى بعض المعانى التى تدور فى رأسى ولم تتجسد بعد كأفكار قد أطرحها على نفسى أو على الملأ لمن حولى – هى مجرد هواجس داخلية لا معنى واضح لها – لم تكن لدىّ الجرأة الكافية لأن أمر عبر باب شرفتى فى هذا الوقت ليس لأنه – وقتا للنوم – كما تُصِر أمى دوما – لكن لأننى أردت أن افعل أمرا قد يطيح بى من المنزل .
وقفت مسندة إحدى يداى على سور الشرفة التى تطل على شوارع القاهرة التى لا تنام أبدا ، والأخرى تبحث عن علبة سجائرى و ولاعتى الزرقاء اللاتى أخفيتهن منذ قليل فى احدى الزوايا ، ولعت سيجارتى ونظرت لأسفل وانا اتسائل عن ردة فعل أمى حين تكتشف ما أفعله فى بيتها ، لكنى لم البث طويلا فى الاحساس بالذنب لأنى تعودته تجاه أمى .
جل ما كان يشغل بالى فى تلك اللحظة هو احساسى باللامعنى و اللافرق ، انا احب الحياة و اجيد الاستمتاع بها لكنّى انظر للأسفل فقط حتى ارى نهاية تلك الحفرة التى تمركزت تحت الشرفة و كأنها تريد ان تسحبنى اليها ، و رأيت فى لحظة ما أننى اتهاوى من الدور الثانى عشر لأسكن هذه الحفرة التى لا أعرف من صنعها و لماذا ، كل ما أعرفه أنها المثل الحىّ أمامى على الحياة الاخرى و على أزمتى فى التعامل مع هذا الامر ، الحياة عندى لها ألف معنى و الموت لا يحمل الا معنى واحد فقط هو اننى سأضطر الى فراق من أحببت قبل أن اعيش تلك اللحظات التى طالما حلمت بها و لم تتحقق بعد ، عدت مرة أخرى من اعماق الحفرة لأنظر الى الله فى السماء و أسأله عن ضرورة الموت اذا كان هناك شخصا أعيش من أجله ، بفعل الهواء قرر باب الشرفة ان يتفاعل مع الحالة التى أعيشها و يصنع ضجة كتلك التى تبشر بحدوث كارثة فى الافلام القديمة ، فأضع كرسى خشبى ليحول دون احداث تلك الضجة لكنه ضعيف للغاية فلا يقوى على المقاومة و اذا تركته سيحدث هو الاخر ضجة أعلى و ستستيقظ أمى و تشم رائحة سيجارتى و ستطردنى فورا – ولا ملجأ لدى غيرها – فكرت أجلس على هذا الكرسى عديم الفائدة لكن فى هذه الحالة سأضطر ان أطفئ السيجارة على الارض و سترى أمى اثار الجريمة فور دخولها الى هنا ، كما أننى مازلت ابحث عن أعماق الحفرة و لن اراها بجلوسى على الكرسى اللعين ، فقررت أن اسند الكرسى بقدميّ ، و استند على سور الشرفة بيداى .
لم تمر سوى نصف دقيقة حتى شعرت اننى قد اتهاوى لأقع فى الحفرة التى تزداد اتساعا وعمقا كلما نظرت اليها ، فأردت أن ابعد عن خاطرى تلك الافكار الكئيبة و قررت الا انظر مرة أخرى لتلك الحفرة اللعينة و ان اكتفى بالنظر الى السماء ، لكنى فى الحقيقة لم أكن املك رفاهية الاختيار لأن الحفرة كانت تحمل مفهومى للحياة فى ذلك الوقت و كانت تسكنها النداهة ، وكنت أسمعها و استلذ بصوتها الشجى الذى سيمنحنى بعض من الصحبة داخل الحفرة فى حال قررت السقوط اليها .
تركت نفسى للهواء و للخيالات التى ارسمها داخل الحفرة ، وقررت ان ألبى النداء و أطلقت لروحى المعنى المرجو ومع اخر نفس خرج من سيجارتى اعلنت رغبتى فى الحياة و القيت بالسيجارة برفق حتى لا يرميها الهواء بعيدا فتقع فى غير المكان الذى حددته لها ، و بالفعل انطلقت السيجارة فى طريقها حتى استقرت بيد النداهة ، و أطلقت ضحكة عالية تشكرنى بها على هذه الرسالة ، وبعدما انطفأت سيجارتى فى احضان الحفرة ، جلست على الكرسى الخشبيّ لثوان ثم وقفت مرة أخرى عليه دون اسناد يديّ على سور الشرفة و ارتميت فى احضان السماء مستنشقة كل الروائح التى مرت بحياتى لكنّى لم يعلق بأنفى سوى رائحتك أنت ، و وجهك لم يفارقنى بينما عيناك كانت تنظر فى حيرة رغم أنّى قد شرحت لك مرارا أن هذه الحفرة تعمق احساسى بالحياة ولابد أن اسكنها ، لا ترفض رجاء لأنى هناك لن انتظرك و لن ادمع حين تتأخر و لن اصرخ حين لا تأتى .
هناك فقط سأكون أنا بلا أية رتوش ، سأحتمى بنفسى ولن ابحث عن تعويضات لأية خسائر ، هناك سأرى العالم كما لم أراه من قبل ، انتظر حتى تزورنى مرة و تعرف كم أنا سعيدة هناك ، و تتأكد أنى مازلت أحبك رغم انك بعد مرور سنة من هذا اليوم ستلتقى بأخرى و تحبها و سأصبح لديك ذكرى لكنك ستظل حبيبى و لن أرى غيرك .

هناك 3 تعليقات: